مئتا خطوة…وثمان وثلاثون جثة

مغيبات قسرا ومنسيات بين صدى صرخات ألم تملأ دهاليز السجون، أصوات تتسرب خلف قضبان السجن لتخبر محاصريها أنها ما زالت تقاوم.

اعتقالات طالت السوريات والناشطات السلميات خلال الثورة السورية، ليتعرضن خلالها ولا يزالون لشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي من خلال الضرب والشبح والصعق بالكهرباء والمشي فوق جثث المعتقلين، وحتى الاغتصاب… أساليب تعذيب متفاوتة بين المعتقلات فلا فرق عند جنود النظام بين يافعة أو شابة أو حتى عجوز.

-تروي هند “34 عام” حادثة اعتقالها من على أحد حواجز النظام في اكتوبر عام 2012 عندما كانت في زيارة للاطمئنان على بيتها الذي تعرض لقصف الطيران السوري في المنطقة الجنوبية من دمشق.

كذئاب وجدت فريستها تجمّع عناصر الأمن على الحاجز عند اعتقالي، واقتادني أحدهم إلى منزل مهجور ليقوم بتفتيشي والبحث عن أي شيء يدنيني، لحظات من التفتيش الذي لم تخلو من نظرات توعّد بما سيحل بي لاحقاً، كبّل العنصر يديَّ واقتادني إلى حاجز آخر يتواجد فيه أحد الضباط، تتابع هند..أثناء طريق العودة كان المشهد مروعاً ,جثث الشبان تملأ أطراف الطريق بعضها متفحم وآخرون منتفخون وآثار الرصاص تبدوا واضحة على أجسادهم، كأنها إعدامات ميدانية أتمتم ما بين نفسي وبيني بكلمات مرتجفة لكن سرعان ما كان يقطعها صوت ذلك الجندي، لا تنظري إلا لخطواتك.

مئتي خطوة وثمان وثلاثون جثة هي مسافة الطريق, وصلنا حاجزاً آخر, لم يكن للكلام صدى على وقع صفعات ذلك الضابط الذي انهال بالضرب على وجهي … ما أسمكِ ؟؟ هند …. قاطعني وأخذ يسأل على قبضته اللاسلكية إن كنت مطلوبة لإحدى الأفرع الأمنية أم لا وما هو جُرمي؟ أنتفضُ على صمتي في وجه الضابط وعناصره ثم يقول اخرسي واكتبي أسماء عائلتك جميعاً, “جُرمي أنني جئت إلى منطقة مكتظة بالإرهابيين” هكذا قال لي الضابط.

وضعوني وحيدة في غرفة مسبقة الصنع على الحاجز ساعة ونصف من الانتظار, جاء أحد العناصر قائلاً إما أن تعترفي أو سنقتلك هنا دون أن يعلم بك أحد، عبارته الصادمة كانت تختلط بكلمات العناصر خارجاً  “هذه الفتاة رأت كل شيء فكيف يمكننا أن نتركها حية”.

لم أعترف بشيء ولم أكن أخشى الموت رغم الأهوال التي رأيتها، في هذه الأثناء جاء ضابط آخر وطلب منّي السجود، ثمّ وضع رأسي على الأرض ليقوم بالدعس عليه بكل ما أوتي من قوة وهو يشتمني بأقبح العبارات ويهددني بالاغتصاب، وحين بدأ الظلام يخيم طلب من العناصر اقتيادي إلى أحد الأفرع الأمنية في دمشق.

اصطحبني خمسة عناصر سيراً لم أعد أحسب خطواتي التي سيقطعها صوت الجنود أو أصوات القصف والرصاص, فلا فائدة منها, وصلنا مكاناً مجهولاً  فيه سيارة عسكرية مصفحة ، وضعوني داخلها وأنا مقيدة اليدين، بدت ضحكاتهم ونظراتهم توحي بما كنت أخشاه, الطامة الكبرى, قام أحدهم بتثبيت جسدي وإغلاق فمي, ليتناوب باقي العناصر على اغتصابي بوحشية وهمجية قبل أن أغيب عن الوعي, لكن كلماتهم كانت تصعق مسمعي, ألم تنتهي يا فلان ؟ فقد حان دوري.

استيقظت صباحاً على أصوات العناصر وهم يطلبون أن أجهز نفسي للذهاب إلى الفرع، وعندما وصلت إلى فرع الأمن العسكري بحال يرثى لها، كانت ثيابي ممزقة والكدمات على جسدي تروي ما حل بي تلك الليلة، حاولت المعتقلات اللواتي كن في المهجع مساعدتي وتهدئتي، لكنني في كل مرة كنت أصحوا بها يرتسم أمامي ذات الكابوس فأعود لغيبوبتي.

بعد ثلاثة أيام استدعيت إلى التحقيق وشكوت إلى رئيس التحقيق ما حدث معي وأخبرته بأسماء العناصر الذين قاموا باغتصابي فطلب مني التوقيع على تعهد بعدم ذكر أسماءهم، وعدم إخبار أي وسيلة إعلامية ولا حتى أهلي… وهددني باعتقال عائلتي بأكملها في حال تفوهت بكلمة، مقابل إطلاق سراحي ووعدني بمعاقبتهم.

خرجت من الفرع متوجهة إلى منطقة الغوطة خشية أن يعلم أهلي بما حل بي, كنت أخشى اعتقالهم في حال وجودي معهم وخوفي كان أكبر خشية عارٍ ألحقه بي أولئك المجرمون.

مكثت في منطقة الغوطة عند إحدى الصديقات مدة شهرين تلقيت فيها العلاج في المشفى الميداني لمدينة عربين كنت أتواصل خلالها مع أهلي وأطمئنهم أني بخير وأني مختبئة خوفا من ملاحقة الأمن، إلى أن تردت الأوضاع في الغوطة واشتد القصف وطلب أبي بإلحاح أن يراني، فاتخذت بعدها قرار العودة مرة أخرى إلى دمشق المدينة.

في الخامس من ديسمبر عام 2012 لملمت أشيائي واتجهت إلى دمشق,

عند حاجز البوابة وكباقي العابرين يتم تفتيش هاتفي المحمول, دقائق من التفتيش ليتكلم بعدها الجندي “اقبضوا عليها” يا للكارثة…إنني مطلوبة لصالح الفرع 227 وقام أحدهم بتقييد يديَّ ووضع عُصابة على عيني واقتادوني بسيارة عسكرية إلى الفرع من جديد.

أثناء التحقيق داخل الفرع طلب مني المحقق الاعتراف بتمويل الإرهاب وأني تلقيت مبالغ مالية كبيرة من السعودية ودول الخليج والاعتراف على أشخاص لم أسمع بأسمائهم من قبل.

هددني بأني سأموت داخل الفرع عندما أخبرته بأنني لم أقم بأي شيء مما ذكر… وهنا بدأت رحلة العذاب, كان الجو بارداً, طلب مني خلع معطفي ثم وضعني في برميل كبير مليء بالماء، وكلما أخرجني ضربني بالسوط ثم وضعني أمام مروحة حائطية كي أتجمد، لم تكن هذه وسيلة التعذيب الوحيدة بل كانت الكهرباء تصعق جسدي أثناء التحقيق، لم أعد أقوى على تحمل المزيد من العذاب والألم، فاعترفت لهم بما أرادوا كي يستكين جسدي قليلا.

بعد ستين يوم تم تحويلي إلى الفرع 291 في منطقة كفرسوسة ثم الفرع 215 حيث كنت أرى جثث الشبان مرمية في الممرات، فالموت في سراديب الأفرع الأمنية لا قيمة له والتعذيب النفسي كان أشد ألما من التعذيب الجسدي.

بقيت هناك 45 يوما أتنقل بين الفرعين إلى أن تم تحويلي إلى سجن عدرا لأقضي بقيّة أيامي فيه.

تم عرضي على قاضي محكمة الإرهاب، وقام بتوقيفي لصالح محكمة الجنايات دون أن يسمح لي بالدفاع عن نفسي، ودون أن يكترث بأنّ كل الاعترافات التي بين يديه أخذت مني تحت ضربات التعذيب.

خرجت من السجن نهاية العام 2014 ضمن مصالحة ما بين النظام ووجهاء المنطقة التي كنت أسكن بها، في ذلك اليوم اقترب مني أحد الضباط وهمس في أذني “أنتِ هند؟ نعم يا سيدي, لدي لك مفاجأة”

أخذني إلى حافلة قريبة مكتظة بالنساء اللواتي سيخرجن معنا في تلك الصفقة، لأرى شقيقتي التي افتقدت زيارتها لي في السجن بين تلك المعتقلات نحيلة الجسد ترتدي ثيابا ممزقة قد اعتقلت بسبب زياراتها المتكررة لي.

ثلاثة أيام بعد خروجنا من السجن كانت كافية للهروب من وطن يحكمه المجرمون سافرت إلى تركيا مع عائلتي خشية الاعتقال مرة أخرى.

-يذكر أن الشبكة السورية لحقوق الانسان وثقت قيام القوات الحكومية باعتقال ما لا يقل عن 11850 سيدة، وذلك منذ آذار 2011 وحتى بداية العام 2017 منهن حوالي 6580 سيدة مازلن قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام السوري.

ويعتبر ملف المعتقلين ورقة ضغط يستخدمها النظام السوري للضغط على المجتمع الدولي بعد تحييد هذه القضية عن ملفها الانساني ورغم كل الانتهاكات التي حصلت وتحصل داخل السجون، لم تستطع الأمم المتحدة ولا حتى المنظمات الحقوقية العالمية إدانة النظام بجرائمه أو حتى الكشف عن مصير معتقل أو مختف قسريا.

ويبقى القيد الأكبر بالنسبة للمعتقلات هو ذلك الألم النفسي والذاكرة السوداء التي ربما سترافقهن طوال الحياة، منهن من تغلبن على ظروفهن ومنهن مازالت تعيش ظلام الحياة خلف قضبان السجن.