المسلخ البشري

سجن صيدنايا العسكري هو المكان الذي تقوم الدولة السورية فيه بذبح شعبها بهدوء. ويشكل المدنيون، الذين تجرأوا على مجرد التفكير بمعارضة الحكومة، الغالبية الساحقة من الضحايا.

منظمة العفو الدولية

*****

– تم افتتاح سجن صيدنايا عام 1987، وهو سجن عسكري تابع لوزارة الدفاع، تديره الشرطة العسكرية، ويقع قرب بلدة صيدنايا شمال دمشق، على بعد نحو 30 كم من قلب العاصمة1.

– يتألف السجن من مبنيين، الأول هو الأقدم، وهو الشهير باسم «المبنى الأحمر»، يتألف من ثلاثة طوابق، وتم تصميمه بحيث تتوسطه كتلة رئيسية تتفرع منها ثلاثة ممرات طويلة، ليأخذ شكل شارة سيارة المرسيدس. أما الثاني فقد بني لاحقاً، وهو الشهير باسم «المبنى الأبيض»، مؤلفٌ من أربعة طوابق، وله شكل يشبه حرف L باللغة الإنكليزية.

– تم نقل كثيرٍ من معتقلي سجن تدمر إلى سجن صيدنايا عند افتتاحه، بالإضافة إلى بعض معتقلي سجن المزة العسكري، وجميعهم كانوا من المدنيين المتهمين والمحكومين بقضايا سياسية، وقضايا تتعلق بـ «أمن الدولة». كما أنه كان منذ ذلك الوقت مكاناً لاحتجاز سجناء مدنيين موقوفين عرفياً لصالح أجهزة أمنية مرتبطة بالجيش، كالأمن العسكري والمخابرات الجوية، ولصالح فرع أمن الدولة. واحتُجِزَ فيه معتقلون لبنانيون وفلسطينيون أيضاً.

– كان في سجن صيدنايا معتقلون عسكريون بسبب ارتكابهم مخالفات لنظام الجيش، وخاصة الفرار من الخدمة، وكان السجناء المدنيون يطلقون على السجناء العسكريين اسم «البلدية»، كونهم يقومون بأعمال النظافة والخدمة.

– كان المعتقلون الذين تجري محاكمتهم أمام محاكم استثنائية، أبرزها محكمة أمن الدولة العليا، يتابعون قضاء مدة سجنهم فيه بعد صدور الأحكام.

– لم يكن سجن صيدنايا هو السجن الرئيسي الذي يتم احتجاز المعتقلين السياسيين فيه في عهد حافظ الأسد، ولكن بدأ يتزايد عددهم فيه منذ مطلع التسعينيات، وبينهم بالإضافة إلى الإسلاميين سجناءٌ يساريون من تيارات وأحزاب مختلفة، كحزب العمل الشيوعي، والحزب الشيوعي/المكتب السياسي، وحزب البعث الديموقراطي.

– كان السجناء يتعرضون فيه لتعذيب أقل وحشية مما كان عليه الوضع في سجن تدمر، وكان عناصر الشرطة العسكرية يتجولون فيه حاملين السياط، ويضربون السجناء بها أحياناً. لكن هذه الممارسات بدأت بالتراجع منذ عام 1990، إذ أصبح سلوك السجانين أقل عنفاً، وسُمِحَ بدخول الصحف اليومية وأغذية خاصة للسجناء المرضى، وسمح بالزيارات لبعض فئات السجناء. وعلى كل حال، كان السجناء الإسلاميون يتعرضون فيه لمعاملة أكثر قسوة من سواهم.

– لم يكن مسموحاً بالزيارة لسجناء حركة الإخوان المسلمين ولا سجناء حزب البعث الديموقراطي إلا في حالات فردية نادرة واستثنائية، وأما السجناء الآخرون فكان يُسمَح لعائلاتهم بزيارتهم شهرياً، يشاهدونهم من خلف شبك حديدي مزدوج، بالكاد تتلامس أطراف أصابع السجناء وذويهم عبره، وتتراوح مدة الزيارة بين 15 و20 دقيقة. غير أنه سُمحَ لاحقاً بالزيارة الخاصة في غرفة حسب دورٍ تم ترتيبه، وكانت الأدوار متباعدةً جداً.

– لم يكن سجن صيدنايا مكاناً لتنفيذ أحكام الإعدام في تلك المرحلة، لكن الشهادات التي حصلنا عليها تؤكد أن بعض أحكام الإعدام قد نُفِّذت فيه قبل عام 1995.

– بدأ عدد السجناء في سجن صيدنايا يتناقص منذ العام 1996، نتيجة إطلاق سراح معظمهم تباعاً بانقضاء محكومياتهم.

– التحول الكبير الذي شهده سجن صيدنايا جاء في أعقاب غزو العراق عام 2003، وانخراط أجهزة النظام السوري الأمنية في «الحرب على الإرهاب»، إذ تحول السجن إلى مكان الاحتجاز الرئيسي للمتهمين بالانتماء للحركات السلفية الجهادية، خاصة أولئك الذين حاربوا في العراق ثم عادوا إلى البلاد، والدعاة والخطباء الذين جندوهم.

– ارتفع عدد السجناء الإسلاميين في سجن صيدنايا بين العام 2004 والعام 2008 من 200 معتقل إلى ما يقارب 1460، معظمهم محسوبون على التيارات الجهادية، ومن بينهم جهاديون من جنسيات غير سورية، ولم يتجاوز عدد السجناء الآخرين 200 شخص من الموقوفين بمختلف التهم.

– ترافق هذا مع تردي أوضاع السجن، وتصاعد أعمال التعذيب والإذلال الممنهج، والسلوك الحاطّ من الكرامة الإنسانية، وإهانة المقدسات الدينية للسجناء. مُنعَت جميع وسائل الاتصال مع العالم الخارجي، ولم يكن هناك عناية طبية، ما أدى إلى وفاة عدة سجناء في تلك الفترة، ووصل الأمر إلى حد قطع المياه والكهرباء عن السجناء عدة أيام متتالية في بعض الحالات.

– كان السجناء الجهاديون من أصحاب التجارب القتالية، والدعاة وقادة الجماعات في التنظيمات السلفية، يوضعون في المهاجع ذاتها مع معتقلين بسبب تعاطفهم مع الحركات الجهادية فقط، أو بسبب حيازتهم كتباً وتسجيلاتٍ تروج للفكر السلفي، وبينهم شباب صغار في السن وقاصرون أحياناً، وكان تجميع هؤلاء معاً وعزلهم عن العالم في ظروفٍ من الإذلال اليومي يزيد من تشددهم، ومن تبادلهم للأفكار والخبرات.

– في العام 2008 وقع تمردٌ كبيرٌ في سجن صيدنايا، ولا تزال تفاصيل ذلك التمرد غير معلومة تماماً، لكن الشهادات التي نُشرَت تتفق على القول إنه مرّ في ثلاثة مفاصل رئيسية.

 المفصل الأول هو بداية التمرد في السابع والعشرين من آذار 2008، وذلك احتجاجاً على سوء الأوضاع والإهانات المستمرة. تم إيقاف التمرد دون سفك دماء، وأدى إلى تحسين أوضاع السجناء نسبياً، وهو ما اعتبرته إدارة السجن وقتها تسيباً وفلتاناً ينبغي إنهاؤه.

المفصل الثاني جاء عند اقتحام المئات من عناصر الشرطة العسكرية للسجن صبيحة الخامس من تموز 2008، وذلك لإخماد تمردٍ كما قالت السلطات السورية وقتها. وأدى هذا الاقتحام إلى سقوط نحو 17 قتيلاً من السجناء فضلاً عن آخرين تمت تصفيتهم لاحقاً، لكنه كان هجوماً فاشلاً، أسفر عن احتجاز السجناء لمئات العناصر من الشرطة العسكرية وسيطرتهم على مبنى السجن الرئيسي، وهو ما تلاه عملية تفاوض أفضت إلى إطلاق سراح الرهائن، وتعهدات من النظام بعدم الانتقام أو اقتحام الأجنحة والزنازين، وبمحاسبة المسؤولين عن المجزرة.

المفصل الثالث والأخير كان في السادس من كانون الأول 2008، عندما قامت قوات النظام بمحاولة اقتحام أجنحة السجن، وتعرضت لمقاومة من السجناء، فانتقلت إلى استقدام تعزيزات من آلاف العناصر، وحصار السجن وقطع الغذاء والماء والكهرباء عنه، ونشر القناصة على أسطحه وإطلاق الرصاص لتصفية أكبر عدد من السجناء، ما أجبر الأخيرين على التفاوض لتسليم أنفسهم، ليصار إلى إخلاء السجن على دفعات اعتباراً من السادس والعشرين من الشهر نفسه، وتصفية جميع الذين رفضوا الاستسلام، وقد أسفرت تلك المذبحة عن مقتل نحو 125 سجيناً.

– تمت إعادة عشرات السجناء إلى صيدنايا بعد إخماد التمرد، وفي بداية الثورة السورية، تم إطلاق سراح معظم السجناء بموجب عفو رئاسي عام 2011، بينهم مئات السلفيين الجهاديين، الذين قاد بعضهم لاحقاً الفصائل السلفية في سوريا، ويَشيع وصف «الأكاديمية» عند الحديث عن السجن، دلالةً على أهمية الخبرات القتالية والدعوية التي راكمها السجناء الجهاديون فيه.

 

– استمرَّ وتوسّعَ استخدامُ السجن كمكان اعتقال رئيسي خلال سنوات الثورة السورية، ويتم اليوم احتجاز آلاف السوريين فيه، بمختلف التهم ذات الصلة بالثورة والحرب في البلاد، بدءاً من التظاهر السلمي والعمل الإعلامي والإغاثي، وصولاً إلى الانشقاق عن الجيش النظامي، والعمل المسلح في صفوف الجيش الحر أو الفصائل السلفية، ويشمل ذلك أيضاً المئات من ضحايا عمليات الاعتقال العشوائي عند اقتحام القرى والأحياء وعلى الحواجز.

– في سجن صيدنايا موقوفون لم توجّه لهم أي تهم، وآخرون خاضعون للمحاكمة أو محكومون من قبل محاكم الميدان ومحكمة الإرهاب التي تم تأسيسها بعد رفع حالة الطوارئ وحلّ محكمة أمن الدولة العليا. وفيه أيضاً يتم احتجاز المحكومين بالإعدام بقرارات من محكمة الميدان العسكرية في القابون، والمحاكمات فيها شكلية وسريعة وغير علنية، ودون توكيل محامين.

– أغلب المعتقلين المدنيين محتجزون في المبنى الأحمر، وأغلب المعتقلين العسكريين محتجزون في المبنى الأبيض.

– يتم تنفيذ أحكام الإعدام شنقاً في غرفة خاصة في المبنى الأبيض، تتضمن منصتي إعدام، وفضلاً عن أولئك الذين يتم إعدامهم، يفارق عشرات السجناء الآخرين الحياة فيه جراء التعذيب والاكتظاظ وغياب العناية الطبية وسوء التغذية.

– في شباط فبراير من العام 2017، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً بعنوان المسلخ البشري، تحدثت فيه عن ظروف الاعتقال والتعذيب والموت في سجن صيدنايا، بالاستناد إلى شهادات سجناء سابقين وضباط وحراس منشقين، وقدّرت فيه أن النظام أعدم ما بين 5 آلاف و13 ألف شخص شنقاً في سجن صيدنايا بين أيلول 2011 وكانون الأول 2016.

– فيما يلي بعض العبارات المذكورة في التقرير على ألسنة الشهود، والتي تعطي تصوراً عن الأوضاع الجهنمية في السجن:

* كان الضرب مبرحاً جداً، وأشبه ما يكون بمن يحاول أن يغرس مسماراً في صخرة مراراً وتكراراً.

* قد نمضي خمسة أيام كاملة بلا ماء للشرب أو للتنظيف أو لاستعماله في دورة المياه.

* كان يتوفى شخص واحد يومياً في زنزانتنا خلال تلك الفترة، وكنا نضع الجثة ملفوفة ببطانية عند الباب، ويأتي الحارس صباحاً، ويتعين على شاويش الزنزانة أن يقول (جاهزين سيدي).

* كانوا يمرون في طابور «القطار» مطأطئي الرؤوس، ومحاولين أن يمسك كل واحد منهم بقميص الشخص الذي أمامه. ولقد انتابني الرعب لمجرد مشاهدتهم، فلقد كان يتم اقتيادهم إلى المسلخ.

* هم لا يعلمون إلى أين يتم نقلهم، وأتذكر أن أحدهم كان سعيداً لاعتقاده أنه سوف يتم الإفراج عنه.

* كان بمقدورنا أن نسمع ليلاً أصواتهم وهم يتعرضون للضرب بحزام الدبابة.

* يجبرونهم على الوقوف في طابور ويقومون بتجهيزهم للإعدام، ويتريثون حتى تمتلئ جميع مواقع الشنق قبل أن يقوموا بوضع الأنشوطة… بحيث لا يتسنى لهم إدراك الأمر إلا في آخر لحظة فعلاً.

– جاء في تقرير منظمة العفو الدولية، أنه يتم نقل جثث الضحايا إلى مشفى تشرين العسكري ليتم تسجيلها من طرف موظفي المشفى، ويتم نقل الجثث بعدها من مشفى تشرين إلى قبور جماعية في أرض قريبة تابعة للجيش في دمشق.

– في 15 أيار 2017، قال ستيوارت جونز مساعد وزير الخارجية الأميركية، إن الولايات المتحدة لديها أدلة على أن النظام السوري قد أنشأ محرقة للجثث في سجن صيدنايا، للتخلص من الأدلة على عمليات الإبادة الجماعية التي يرتكبها هناك، وأن هناك صوراً ملتقطةً عبر الأقمار الصناعية تثبت ذلك.