التهجير القسري والتغيير الديموغرافي

 

استمرّت أعمال التهجير القسري للعام الثاني على التوالي بوتيرة مرتفعة، كنتيجة لسياسات الحصار الطويل والقصف الوحشي على مدار الاعوام الماضية.

ويتّصف التهجير القسري بارتباطه المباشر باتفاقاتٍ  يتم التوصل إليها بين قوات النظام او احد داعميه الاجانب، وبين ممثلين عن المجتمع المحلي  او الفصائل العسكرية الموجودة فيه .وتكون في بعض الاحيان مرتبطة بصفقات خارج الحدود السورية.

وفي كل حالات الإجلاء التي جرت في عام 2017، ما عدا حي الوعر في حمص، فإنّ السلطة في المناطق التي كانت تُسيطر عليها المعارضة عادت إلى يد النظام. وبالتالي فإنّ السكان خضعوا إلى تصنيفه بخصوص من هو “مطلوب للعدالة” و من هو غير ذلك، حيث تم تصنيف العاملين في القطاع الطبي وأعضاء المجالس المحلية والنشطاء الإعلاميين والإنسانيين باعتبارهم مطلوبين للعدالة ،مما دفعهم للمغادرة مع ذويهم، إلى جانب المقاتلين  وأولئك المعروفين بمواقفهم المناهضة للنظام.

أما السكان الآخرون الذين صُنّفوا من غير المطلوبين، فقد طلب منهم إعلان الولاء للنظام من خلال تقديم وثيقة ولاء للنظام ورئيسه، على أن يتم توقيع هذه الورقة ببصمة الإصبع. وقد دفع هذا الامر بعض الاهالي إلى التوقيع بالدم على الورقة، من اجل التأكيد على ولائهم، على الطريقة التي كانت سائدة قبل عام 2011.

كما  اخضع الشباب في المناطق الخاضعة للمصالحة إلى التجنيد الإجباري الفوري، وتشير التقارير الواردة من أحياء برزة والقابون إلى أن الشباب المجندين تم إرسالهم إلى الجبهات الأكثر سخونة.

وتتصف كل عمليات الترحيل التي تمّت خلال الاعوام السابقة بانها مخالفة لقواعد القانون الدولي، ولا تتصف بأي شكل قانوني، حتى لو توافق عليها ممثلو الفصائل وممثلو النظام. عدا عن ارتباط عمليات التهجير اصلاً بجرائم حرب مباشرة. إذ ان جميع عمليات التهجير جاءت بعد سنوات من الحصار الخانق للمناطق المحاصرة، وتم خلال هذا الحصار منع وصول الطعام والشراب والدواء، كما تم منع إجلاء الجرحى والمرضى او إدخال المعونات الطبية إليهم. إضافة إلى القصف العشوائي، وغيره من اساليب القتل واستهداف المصالح الحيوية للمدنيين. وبالتالي فإنّ التهجير القسري عمل غير قانوني بُني على سلسلة من الانتهاكات والجرائم.

وكان من أبرز الصفقات التي شهدتها سورية خلال عام 2017:

في 29/1/2017 تم التوصل إلى اتفاق بين النظام السوري وميليشيات حزب الله اللبنانية من جهة ومقاتلي المعارضة في وداي بردى في ريف دمشق من جهة أخرى، يقضى بخروج المقاتلين، أو تسليم أنفسهم للنظام. وقد أخرج المقاتلون بأسلحتهم الخفيفة مع حوالي 900 مدني إلى إدلب.

قام حزب الله والنظام السوري بعقد صفقة مع تنظيم الدولة في منطقة جرود القلمون، سمحت بخروج مقاتلي التنظيم إلى دير الزور يوم 28/8/2017 بحماية الحزب وقوات النظام.

وفي 20/2/2017 تم التوصل إلى اتفاق بين لجنة تفاوض تمثّل اهالي مدينة سرغايا في ريف دمشق وممثلين عن النظام السوري، بضمانة روسية. وخرج بموجب الاتفاق جميع المقاتلين في المدينة مع ذويهم إلى إدلب، مقابل فك جزئي للحصار المفروض على المدينة ،وعودة الخدمات إليها. كما قضى الاتفاق بمنح المتخلفين والمنشقين عن الجيش مهلة ستة اشهر ليتم تعبئتهم في ما بعد ضمن قوة خاصة مهمتها الوحيدة تامين المنطقة بإشراف الجيش السوري وبضمانة روسية.

وفي 13/3/2017 توصلت لجان التفاوض بين ممثلين عن حي الوعر في حمص والنظام السوري إلى اتفاق يقضي بتهجير المقاتلين ومن يرغب معهم إلى إدلب ومناطق درع الفرات، مقابل رفع الحصار عن الحي، وتسليمه للطرف الروسي الضامن للاتفاق. وقد اكتمل خروج المقاتلين والاهالي يوم 19/5/2017. وشكل الحي اخر معقل للمعارضة في مدينة حمص .

وفي 12/4/2017 بدأ تنفيذ اتفاق المدن الأربعة، والذي يقضي بخروج كافة سكان كفريا والفوعة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام في حلب، مقابل خروج المقاتلين وذويهم من الزبداني ومضايا إلى إدلب ودرع الفرات، لينتهي بذلك حصار المناطق الاربعة، والذي استمر عدّة سنوات.

وتم التوصل إلى هذا الاتفاق، والذي اعتبر واحداً من أكبر عمليات تهجير السوريين منذ عام 2011، بعد مباحثات  سرية في العاصمة القطرية بين إيران وحزب الله من طرف وحركة احرار الشام وهيئة تحرير الشام من طرف آخر، وتم الكشف عن نتائجها في 28/3/2017. وشمل الاتفاق إطلاق سراح مختطفين قطريين من الاسرة الحاكمة، كانوا قد اختطفوا في العراق عام 2015، من قبل ميليشيات شيعية يرجح انها من حزب الله العراقي، ودفع مبالغ كبيرة لهيئة تحرير الشام مقابل إنجاز الصفقة.

وفي 8/5/2017 توصّلت لجنة من حي برزة في دمشق إلى اتفاق مع قوات النظام يقضي بخروج المقاتلين ومن يرفض من الأهالي تسوية الأوضاع مع النظام إلى إدلب، وقد اكتمل خروجهم بتاريخ 29/5/2017. واكتملت معها سيطرة النظام على أحياء برزة والقابون وتشرين في العاصمة. وشكل اتفاق حي برزة أول عملية تهجير لسكان دمشق.

الحصار ونقص الاحتياجات الحياتية

استمرّت قوات النظام بشكل اساسي باستخدام سلاح الحصار لمعاقبة المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة. لكن عام 2017 مقارنة مع الاعوام الخمسة الماضية سجل اقل استخدام لهذا السلاح من حيث مساحة المناطق المحاصرة او من حيث عدد السكان المحاصرين.

ويعود الانخفاض الذي سجّله عام 2017 لسببين رئيسيين، الاول: سيطرة قوات النظام على عدد من المناطق التي كانت تُحاصرها في السنوات السابقة، حيث تمكّنت تحت وطأة الحصار من التوصل إلى اتفاقيات مع المقاتلين في هذه المناطق تضمن خروجهم ومن يرغب معهم من المدنيين مقابل تسليم المنطقة إلى قوات النظام.

أما الثاني: فهو تمكّن قوات النظام من كسر الحصار الذي كان يفرضه تنظيم داعش على وسط مدينة دير الزور لعدة سنوات .

وبلغ عدد السوريين الذين عانوا من الحصار المباشر في عام 2017 حوالي 700 ألف نسمة، وتوزّعوا على أربعة مناطق رئيسية هي: الغوطة الشرقية لدمشق، والتي يعيش فيها حوالي 400 ألف شخص.  وريف حمص الشمالي، والذي يعيش فيه حوالي 150 الف نسمة، إضافة إلى حي الوعر في مدينة حمص، والذي كان يعيش فيه حوالي 40 ألف نسمة، وخرج من قائمة المناطق المحاصرة في شهر أيار/مايو من هذا العام، ووسط مدينة دير الزور، والذي يعيش فيه حوالي 100 الف نسمة، وخرج من قائمة المناطق المحاصرة بداية شهر ايلول/سبتمبر من هذا العام.

وتقوم الامم المتحدة بإيصال قوافل المساعدات البرية إلى المناطق المحاصرة، بناء على ترتيبات مسبقة مع حكومة النظام، والتي ك ثيراً ما تضع العراقيل امام وصول المساعدات في وقتها.  إلا ان الامم المتحدة عملت بشكل استثنائي منذ يوم 24/2/2016 على إيصال المساعدات من الجو إلى الجزء المحاصر من مدينة دير الزور، والخاضع لسيطرة النظام، واستمرّت في هذا الإجراء حتى يوم 17/9/2017.

وتعللت المنظمة الدولية بغياب الإمكانيات الفنية والموافقات السياسية للقيام بمثل هذا الإجراء بحق المحاصرين في كل المناطق ا الأخرى الخاضعة لسيطرة المعا رضة، مما ادّى إلى وفاة عشرات الاشخاص، وإجبار عشرات الالاف من الاشخاص على النزوح من ديارهم.

وإضافة إلى منع دخول الاحتياجات الإنسانية الضرورية إلى المناطق المحاصرة،  تعمد قوات النظام إلى استهداف المحاصيل الزراعية داخل المناطق المحاصرة، بما يزيد من معاناة السكان، وتمنعهم من تجاوز آثار الحصار.

وتقوم هذه القوات منذ عام 2012 باستهداف ا الأراضي الزراعية بالقنابل العنقودية، من أجل استهداف المزارعين وجراراتهم، ومنعهم من العمل في أراضيهم الزراعية.

وقد استخدمت هذه السياسة على نطاق واسع في السنوات السابقة في ارياف حلب وإدلب ،لكنها استمرت بشكل ممنهج هذا العام في الغوطة الشرقية.

وادّى منع دخول المواد الغذائية والطبية اللازمة إلى المناطق المحاصرة إلى عدد من الوفيات، وخاصة بين الاطفال والمرضى وكبار السن، بالإضافة إلى تفشي الامراض، والتي يُسبب بعضها عاهات مزمنة.

وإلى جانب المناطق المحاصرة، فإنّ مساعدات الامم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية لا تصل بشكل كلي او متقطع إلى عدد من المناطق المصنّفة كمناطق يصعب الوصول إليها، وتشمل كل المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش والتي تقلّصت مساحتها بشكل دراماتيكي في الشهور الثلاثة الأخيرة من هذا العام، ومناطق الاشتباكات العسكرية. ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فإنّ عدد السوريين الذين يعيشون في مناطق يصعب الوصول إليها مع نهاية عام 2017 يبلغ حوالي 2.5 مليون نسمة، ولا يتضمّن هذا الرقم السكان المتواجدين في الغوطة الشرقية وريف حمص، والبالغ عددهم حوالي نصف مليون نسمة .

كما يواجه عدد كبير من السوريين المتواجدين في المناطق الأخرى ظروفاً معيشية صعبة، رغم إمكانية الوصول إليهم. حيث تؤدّي الظروف الاقتصادية الصعبة وغياب فرص العمل إلى الحد من إمكانية تأمين المستلزمات الحياتية الرئيسية دون مساعدة من جهات خارجية. وقد قدّرت الأمم المتحدة أن هناك 6.5 مليون سوري يحتاجون إلى المساعدة الغذائية، إضافة إلى 4 ملايين سوري معرضون للخطر.