الاغتصاب في المعتقلات جريمة ضد الانسانية

“الاغتصاب”. وصمة في مجتمع لا يرحم في كثير من الأحيان. مجتمع ينظر للفتاة المغتصبة على أنها سبب فقدان عذريتها، ويُحمّلها توابع ما حدث معها، ويصل في كثير من الأحيان إلى نبذها. ولم تنجُ الفتاة المعتقلة من تلك التهم التي تلاحقها، فآثرت الكثيرات ممّن تعرضن لتجربة الاعتقال الهرب خارج سوريا خشية مواجهة المجتمع والعودة للعيش معه تحت اسم “مغتصبة”، ولأجل هذا غابت عن التوثيق قصص مئات المعتقلات، فكان الصمت على قصص هؤلاء جريمة أخرى لا تقل بشاعة بحقهن.

الدعوة إلى الحرية

نهى، 24 عاماً، فتاة سورية من مدينة حمص، كانت تدرس الهندسة المدنية في جامعة البعث. انخرطت في الثورة منذ بدايتها وكان نشاط والدها السياسي قد فتح عينيها على الجرائم السابقة للنظام السوري، ولذا كانت الثورة الضوء الذي ترى فيه حريتها وحرية بلدها، والأداة الأمثل لتغيير الصورة النمطية عن المرأة، الصورة التي ترسمها على أنها ضعيفة وتحصر مسؤولياتها في شؤون المنزل فقط، بل وتفرض عليها ألا تخرج من ذلك الإطار أبداً.

أرادت نهى أن تكون من الناشطات اللواتي يزرعنَ الثقة لدى الضحايا من النساء، وأرادت نشر الوعي بما يخص الاغتصاب كانتهاك فظيع لحقوق الإنسان، كما حاولت لفت نظر الجميع إلى ضرورة احتواء هؤلاء الفتيات ومساعدتهنّ على تجاوز المحنة التي مررن بها وتقديم الدعم اللازم لهن.

تقول نهى في حديث للنبض: «كان أبي دائماً ما يقول لي: أنتِ خلقتِ لتكوني امرأة حرة، امرأة لا تسمح لأحد أن يتحكم بها.» ولأننا كنا خمس فتيات في منزل واحد، فقد ربانا والدي على أن نكون قويات، وساهم هذا التفكير في توجيهي لمساعدة المرأة في الثورة على وجه الخصوص، فلم يعد عملي ينحصر في تنظيم المظاهرات أو تهريب الأدوية، بل بات يتعلق بإقامة دورات تدريبية للنساء لمساعدتهن على تجاوز الظروف النفسية التي يعانين منها، خاصة فئة أولئك المغتصبات.»

تضيف نهى: «لم أتوقع يوماً أن أكون أنا تلك الضحية، وأن أكون أنا من تحتاج إلى دعم نفسي ومعنوي، وأن أحتاج لفسحة صغيرة من الحياة أنسى بها ما حل بي.»

اعتقلت نهى من منزلها في 17/11/2012 بعدما وجهت إليها تهمة تنظيم المظاهرات، واقتيدت إلى فرع المخابرات الجوية. هناك تفاجأت بأن والدها اعتقل من عمله أيضاً في نفس الوقت. كان اللقاء الأول لهما في فرع المخابرات الجوية يحمل كثيراً من الكلمات، كلمات من قبيل: «كوني قوية نهى»، و«أنا معك حتى لو بإيدي في حديد».

تروي نهى ما حصل معها في الفرع قائلة: «أحضرنا المحقق سوية، وصار يضرب أبي ويهينه أمامي، ثم التفت الي وصار يضربني ويركلني بقدمه. ثمّ قال لأبي: “ما رأيك أن تشاهد غداً فيلماً قد لا يعجبك؟” هنا، أحس أبي برعب حقيقي، وتملّكني شعور بأن روحي تخرج من جسدي، وبدأ يوجه إليّ الشتائم النابية. ثم ذهبوا بي إلى زنزانة فيها عشر نساء. لم أتمكن ليلتها من النوم وأنا أفكر فيما قد يحدث لي في الغد. كان ذلك أصعب أنواع الانتظار، أن تنتظر المجهول! وكيف يكون المجهول في معتقلات النظام.»

تكمل قائلة: «في اليوم الثاني تم اقتيادي إلى الضابط، وأدخلوني إلى غرفة أسمع فيها أصوات ضرب وتعذيب شديد، على الأغلب كان الصوت آتياً من الغرفة المجاورة. وكان أول ما قاله الضابط لي: “أعلم أن هناك أصواتاً كثيرة هنا، إلا أن هناك صوتاً يجب أن تسمعيه جيداً.” كان هذا الصوت هو صوت أبي، انهالوا عليه بالضرب ثم قالوا له: “سيبدأ الفيلم الآن”، وبدأوا بتمزيق ثيابي ونعتي بأقذر الألفاظ، حاول والدي الضعيف أن يقاوم إلا أنه كان أضعف من الموقف، أضعف من الأسلاك الحديدية، وأضعف من ضربات الكهرباء، وأضعف من أن يرى ابنته تُغتصب بينما هو واقف يتفرج.

المجرم صديق الطفولة!  

قام باغتصاب نهى يومها خمسة أشخاص. تقول: «الموقف الذي كاد يحطمني أن أحد هؤلاء المغتصبين كان صديق طفولتي، فأثناء تناوبهم على اغتصابي اقترب مني، سمعت صوته! ليس غريباً علي! يا إلهي إنه هو! نظرت إلى الشامة الكبيرة التي على يده، كانت عيناي شبه معصوبتين ولكن ليس بشكل كامل، لذلك تمكنت من رؤيتها. وعندما خرجت من السجن التقيت به صدفة، اقترب مني ليسلم علي، نظرت مجدداً إلى يده، نفس الشامة ونفس الصوت، لم أعرف كيف استطعت العودة إلى المنزل. والأغرب من كل ذلك أنني وبعد استقراري وخروجي من المعتقل دخلت لأتصفح صفحته الشخصية على الفيسبوك، لأفاجأ بأنه من المنادين بحقوق المرأة، بل ولا يفتأ ليل نهار يذكر بحريتها.

البدء من جديد

خرجت نهى بعد ثلاثة أيام من المعتقل بعد وساطة من أحد أفراد عائلتها المقربين من النظام ودفع مبلغ كبير لهم. عادت إلى المنزل، إلا أن أباها لم يعد حتى بداية العام 2013. فور وصول والدها إلى المنزل ركض إليها أولاً وعانقها، وأثناء وجود المهنئين لم يكن ينظر إلا إليها. عن ذلك تقول نهى: “كنت أحس أنه ينظر لي بفخر ويقول: “أنتِ نهى القوية التي أحبها، أنتِ نهى التي ستتمكن من تجاوز كل هذا، كوني سنداً لي.” وقفت بقية عائلة نهى معها لدعمها، إلا أنهم أخبروها أن لا تروي ما حدث معها لأحد، لأننا في النهاية نعيش في مجتمع لا يرحم!

ظلت كوابيس وأشباح المعتقل تراود نهى حتى بعد خروجها منه، ما ساهم في تأزم حالتها النفسية، إلى أن أيقنت ضرورة الذهاب للعلاج النفسي عند أحد أصدقاء العائلة. وبالفعل، ساعدها الطبيب على الخروج من حالتها. ثم تركت حمص، مدينتها الأم، وذهبت إلى خالتها في دمشق بعدما اضطرت إلى الانقطاع عن دراستها. وعاشت في دمشق متخفية بعدما تم اتهامها بتهمة جديدة وجهت إليها، وهي تهريب السلاح! الأدوية التي كانت تهربها نهى اعتبرها النظام سلاحاً، فسارعت إلى السفر إلى بيروت في 23/4/2014.

الحب الزائف

سافرت نهى إلى بيروت واستقرت عند خالتها أيضاً. هناك، طرق الحب باب قلبها، وأحبت ابن خالتها، الذي بدأت مشاعره تتأرجح بعدما سافرت إلى ألمانيا. وتصاعدت وتيرة المشاكل بينهما حتى صار يذكرها بماضيها وبما مرت به في تجربة الاغتصاب، ثم قال لها: “كيف لي أن أتزوجك وأنت لست عذراء! لا يمكنني تخيل ذلك”! على إثر ذلك، عادت حالتها النفسية للتأزم، وأصبحت تخاف من الانخراط مع هذا المجتمع من جديد، حتى انتهت علاقتها معه، وانتقلت للعيش في ألمانيا محاولة مواجهة كل ما حدث معها، والبدء في مكان  جديد، ومجتمع جديد لا يشبه المجتمع الذي خرجت منه.

هل تتزوجينني؟

تمكنت نهى أخيراً من التعرف على مجموعة شبابية سورية تنظم رحلات وتقيم نشاطات جماعية في ألمانيا، أحد أفراد هذه المجموعة هو «إياد»، شاب منفتح ومن الداعمين لحقوق المرأة والمناصرين لها. بدأت نهى تشعر أن إياد يحاول أن يتقرب منها، لكنها كانت تخشى تكرار تجربتها الفاشلة في الحب، فحرصت على ألا تتطور العلاقة إلى أكثر من إعجاب. إلى أن جاء اليوم الذي دعا فيه إياد نهى إلى العشاء، وأخبرها بمشاعره وبأنه يود أن يكمل حياته معها. تقول نهى: «هنا أحسست بغصة في قلبي، عادت بي الذكرى إلى ذلك الكرسي الحقير، وإلى الحبيب السابق. استجمعت قواي وأخبرته بما حدث معي في المعتقل، أصيب بدهشة شديدة وصدمة كبيرة، لكنه سرعان ما ضمني إليه وقال لي: «أنا لا يهمني كل ما حدث معك، أنا هنا لأجلك».

طلبني رسمياً من والدي في ذات الليلة، ثم ساعدني على التسجيل في برامج لمساعدة النساء المضطهدات والمعنفات». تقول نهى: «رويت قصتي لأن صوتي يجب أن يصل للجميع، رويت قصتي لأقول لكل امرأة لستِ أنتِ العار، بل العار في كل عقل يرى في المرأة المغتصبة عاراً. رويت قصتي لأحثّ الجميع على أن يقفوا إلى جانب المرأة، وكي أقول لها إن لم تجدي من يقف معكِ فقفي أنتِ مع نفسك. حلمي اليوم أن أنجب طفلة وأربيها كما رباني أبي، وأن أقول لها أنتِ أقوى من أي شيء قد يواجهك.»

كشفت عدة تقارير لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان استخدام الاغتصاب كسلاح من قبل قوات النظام السوري، فيما لا تُبرّأ الفصائل المقاتلة من ممارسته أيضاً. ويُذكر أن القانون الدولي يَعتبر الاغتصاب جريمةً من جرائم الحرب. كما عدها اعتداءً جسيماً على مبدأ الحماية الذي قرّرته اتفاقيات جنيف. كما أن الاغتصاب وجرائم العنف الجنسيّ الأخرى، وردت ضمناً في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. ويبقى التوصيف الأدقّ لجريمة الاغتصاب ما جاء في ميثاق روما الناظم لمحكمة الجنايات الدولية، الذي صنّف الاغتصاب كجريمة ضد الإنسانية، وجريمة حرب.