قصة نجاة من الجحيم

الخميس 2/4/1992 وقفة عيد الفطر السعيد
في تمام الساعة الواحدة وعشرين دقيقة كانت باصات السفر تستعد مرتحلةً بنا من تدمر إلى دمشق رمقت بنظري جدران ذلك السجن الرهيب (سجن تدمر العسكري)
وفي كل لبنة من لبناته ذكرى دامية ومع كل حبة رمل من حباته قصة مبكية وخلف قضبانه زفرات مؤلمة وحكايا موجعة بدأت محركات الباصات بالدوران ودار بخاطري شريط أثنا عشر عاماً من الزمن مجبولةً بالمرارة والألم وراحت جدران السجن تغيب بالأفق البعيد ولكنها لن تغيب من أفق خيالي ونشيج روحي وزفرات قلبي كنت في المقعد الأول خلف السائقل ويجلس مع السائق أحد عناصر الأمن العسكري وبيده بندقيته فوكزني بها سائلاً قررد ولاه أبتعرف وين رايح فأومأت له برأسي نافياً لا أعرف
أفيك تعرف لوين رايحين فأجبته إلى سجن صيدنايا قررد ولوو أنتو طالعين أخلاء سبيل لعند أهاليكم فابتسمت أبتسامة إزدراء عم تضحك علينا قررد أبتصدقني بحضي وبعرض أمي وخيتي اليوم بدك تفطر عند أمك وعندما يأس من تصديقنا له بدأ يقسم لنا الأيمان المغلظة إخلاء سبيل ونحن لانصدق كلمة ولاحرف من كلامه
وعند أول شارع من شوارع بلدة تدمر أصطف الناس على طرفي الشارع رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً أطفالاً وشيوخاً يلوحون لنا بأيديهم مهنئين مودعين فرحين
ودعت سجن الألام بقولي اللهم لاتدع فيه حجراِ باقياً على حجر نظرت من نافذة الباص ولأول مرة أشاهد السماء خالية من القضبان لأول مرة أشاهد رجال بشعورهم الطويلة وثيابهم الجميلة ما أجمل الإنسان وما أحقر السجن والسجان وفي تمام الساعة السابعة بدأت أضواء مدينة دمشق تلوح لنا من بعيد تحيينا وتنادينا
هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والراحُ
إني أحبُ وبعضُ الحبِّ ذباحُ
وعند دخولنا مبنى الفرع العسكري بدمشق لأول مرة نسمع كلمات ترحيب وابتسامة من عناصر الفرع (الحمدلله عالسلامة)
بدأت شكوكنا وظنوننا تذهب أدراج الرياح
قد يكون إخلاء سبيل حفاوتهم وتعاملهم غير طبيعية لانسمع مسبة ولاشتيمة ولا ضربة ولارفسة ولاصفعة
لأول مرة منذ اثنا عشر عاماً ينادى على إسمك من دون مسبة ولا شتيمة
لأول مرة يفك القيد من أيدينا وتخلع الكلبشة منهم
لأول مرة نسمع كلمات ليست كالكلمات
دخلنا مدرج قاعة كبيرة
اجتمع بنا كبار ضباط الفرع والمدينة
أذكر منهم هشام بختيار وعلي دوبا
ومظهر فارس
وبعد محاضرة قصيرة أوصاهم رئيس الفرع بأن يعطوا كل واحد منا خمسمائة ليرة
قلت في نفسي لست بحاجة لنقودهم سوف أستأجر سيارة خاصة لحلب كانت أجرة الراكب دمشق حلب خمس ليرات بالثمانين ولتكن اليوم بخمس وعشرين وإذا لزمني أكثر أكون قد وصلت إلى اهلي
طبعاً سمعوا كلامه وأعطوا لكل واحد منا مئة ليرة
وفي تمام الساعة الثامنة والنصف وضعت رجلي لأول مرة خارج السجن وألحقتها بالأخرى مسرعاً حتى لا تبقى واحدة وتذهب الثانية
على باب الفرع وقفت لأول مرة وأنا أتلفت إلى السماء والأرض وإلى اليمن واليسار واإلى الوراء والأمام
أنا حرٌ أنا حرٌ أنا حرٌ
لست بسجين
ولست بأسير
حرٌ في نظري
وفي سمعي
وفي أيدي
وفي رجلى
وفي قلبي
وفي عقلي
وفي فكري
حلم لم يفارقني طيلة أثنى عشر عاما
يداعبني يبكيني يناديني
اتجه بنا عناصر الفرع إلى كراج الهوب هوب بالعباسيين وأول صعودي إلى الباص وقعت عينى على تعرفة الأجرة
حلب _ دمشق 65ل.س
كانت هذه أول صدمة بالواقع المادي
وفي طريقنا بدأت مآذن دمشق تكبر تكبيرات العيد
يالها من أصوات وما أجملها من كلمات
دخلنا إلى الكراج وليلة العيد لايمكن أن تجد باصاً فارغاً إلى حلب كنا مايقارب العشرين كلنا إلى حلب
جاء رئيس المفرزة إلى شوفير باص من الباصات
وطالعنا إلى الباص وخاطبه قائلا
طلع فيني ولاك
اللي بيحكي معهم أو بيزعجهم بدي أشقو شقفتين
وسار بنا الباص لمدة نصف ساعة ولا أحد بالباص يجرؤ على محادثتنا
وكنت جالساً خلف عائلة من أم وأب وطفلة
هذه الطفلة أبويها يلاعبانها وأصبح وجهها بوجهي ومدت يديها الساحرتين الناعمتين باتجاهي
ياالله ماهذا الجمال
إنها لعبة من ألعابي الجميلة قد دبت فيها الحياة
طفلة بهيئة ملاك تفيض بالبراءة والجمال
وبدأت ذكريات الماضي تتوارد بمخيلتي وأشباح كل من أبي وأمي وأخواتي وأعمامي واخوالي تتوارد لذاكرتي وانا احاول أن أرسم صورة تطابق مرور اثنا عشر عاما عليهم
وأخمن عدد من ولدوا ومن ماتوا في غيابي وفي مسامعي صرخات تقول عمو ناصر خالو ناصر
لحظات يعجز أي قلم مهما أوتي من قوة في التعبير والوصف أن يحكيها
إنها مشاعر الحب والحياة هبة أودعها الله في قلوبنا لعب ضنك الأيام وقسوة الليالي في تأججها وتضخمها
وقبل وصولنا النبك تجرأ معاون السائق على سؤالنا عن قصتنا وشاع الخبر لدى الجميع
وتوقفنا في استراحة وهرع الناس حولنا يسألوننا هذا عن أبيه وذاك عن أخيه وآخر عن إبن عمه وتلك عن زوجها وأخرى عن ولدها
لوهلة شعرت أن كل سوريا كانت معنا في السجن وإن لم يكن كل الأشخاص
فمؤكد مؤكد كل البيوت والعوائل
وتابعنا مسيرنا وبدأت حلب تقترب رويدا رويدا ولحظة بعد لحظة وأضواء المدينة بدأت تلوح من بعيد ودقات قلبي
تتسارع ولهفات نفسي تلهث باضطراب
كلما رحبتْ الروضُ بنا قلنا
حلبٌّ قصدنا وأنتِ السبيلُ
ونادى معاون السائق بدخولنا حلب
وطلبت منه أن ينزلني بأول دخول حلب من جهة الغرب عند مفرق الأعظمية
فأنزلني عند مفرق كلية العلوم
وقررت في نفسي أن أخبر أهلي بالهاتف قبل وصولي لسببين
أولهما من أجل أمي فمن الطبيعي أن قلبها الواهي الذي أحترق اثني عشر عاما على وليدها لم يعد يستطيع أن يتحمل تلك الصدمة وإن كانت فرحة
وأن يأتيها الخبر تباعاً وعلى مراحل
وثانيها قديكون أهلي قد أنتقل مسكنهم لمكان آخر
وطأت قدماي أرض طفولتي ولامست ارجلي تراب مدينتي
في تمام الساعة الثانية إلا ربع
في بادئ الأمر لم تستطع قدماي أن تحملني وأظن أنها نسيتْ كيف يسير الانسان علي قدميه
كانت أولى خطواتي تحتاج لشيئ من التوازن
ياالله لا أصدق نفسي
ولاعيني
نسيم الليل البارد ونجوم السماء تلمع في السماء
والناس يروحون ويجيئون
وينظرون إلي من هذا الوافد الجديد حليق الرأس كهيكل عظمي خرج من قبره لا يتجاوز وزني وقتذاك أربعين كغ
أأركض أم أطير من الفرح أم ماذا أصرخ
بدأت أهدئ من روعي بحمد الله وشكره
توقفت لحظات وأنا اتلفت يمنة ويسرة صحيح أن الشارع قديم غير أني أشعر وكأني غريب فالناس لا أعرف وجهوهم وتلك المباني الجديدة تنظر إلي بوجه الغرابة والتساؤل عن ذلك الوافد الجديد لكنها لم تنساني أبداً من ابتسامة تدل على فرحتها بعودتي وكأنها أدركت بعد هنيهة من الزمن حقيقة قصتي
إنها ليلة العيد
وأضواء المنازل تتلألأ والشوارع مزدحمة بروادها
دخلت أول محل صادفته أبحث عن هاتف لم أوفق والثاني والثالث كذلك الأمر
بعدها تذكرت قبل أعتقالي كان يوجد أمام باب كلية العلوم كشك (براكة) ويوجد هاتف ووضع تسعيرة للهاتف
مكالمة عادية 5 قروش
مكالمة عاطفية 10 قروش
مكالمة طق حنك 25 قرش
فأسرعت إليه
آه آه آه
كم ستؤلمني توقف تلك العجلة عن الدوران في داخلي
لم أجد الكشك ولاصاحبه
ودخلت بقالة مزدحمة ورأيت فيها هاتف فطلبت من صاحبها على استحياء وخجل
أخي ممكن تسمحلي بمكالمة ضرورية
اجابني صاحب المحل
تفضل
بعد إذنك ممكن تطلبلي هذا الرقم 53994
نظر إلي نظرة أستغراب
أخي هذا الرقم خماسي
قلت له اي نعم
قال لي
نحن بحلب ست أرقام
قلت مابعرف هادا رقم من حلب
طيب أعطيني الرقم
فزاد عليه رقماً ورن الهاتف
وعندما فتح الخط من الطرف المقابل أعطاني السماعة
_ألو مرحبا
_أهلين وسهلين
_بيت مين هون
_بيت مين بدك
_ عفواً مين عم يحكي
_ أخي انت دقيت الرقم وبتعرف بيت مين بدك
_ هون بيت الفاخوري
خرجت تلك العبارة بحشرجة صعبة وكلمات متقطعة وغير مفهومة
سألني بتلك الكلمات
_ أنت ناصر
سكوت وقف الكلام
_ اي انا ناصر مين معي
_ أنا أخوك طارق
وصاح بأعلى صوته
مااامااا مااامااا
ناصر عالتلفون
_ وين انت بجي أخدك
_ مافي داعي أنا جنب البيت عند كلية العلوم شوي بكون عندكم
_ وين جاي احنا انتقلنا من زمان من الحارة مابتعرف البيت
_ قلي وين العنوان وانا جاي
_ مابتعرف العنوان نحنا ساكنين بالحمدانية
_ الحمدانية أوه
_ وين انت
_ انا عند مفرق كلية العلوم
_ أنا جاييك بسرعة
_ خود أحكي مع أمك
_ الوو عبدالناصر
_ اي ماما انا ناصر طولي بالك جاي لعندك
لم أسمع جوابها
أغلقت سماعة الهاتف
لأجد كل من في المحل ينظرون إلي كان على رؤوسهم الطير
قلت لصاحب المحل عفواً أعتذر منك
وخرجت مسرعاً من المحل
لحق بي أمرأة وعدة رجال أسرعت المرأة إلي الف حمدلله عالسلامة يا ابني
الله يرضى عليك ياابني كان معك فلان ابن فلان
تذكرت ابنها وقطعتني سكاكين القهر والألم
من أجمل الشباب وأرقاهم خلقاً وتربية وادباً رحمه الله
كان علي أن لا أجيبها وكذلك فعلت
وشدني صاحب المحل من يدي وسألني أنت ناصر فاخوري قلت له نعم
أنا ابن أحما عمك
وسار بجانبي يرحب بي ويلاطفني أطراف الحديث
أهلك انتقلوا إلى الحمدانيه عام 1984 وهويحدثني عن إخوتي وأعمامي فسألته عن والدي
فسكت مرتبكاً من السؤال وقرأت في ملامحه مالايستطيع أن يتفوه فيه بلسانه
فأعدت عليه السؤال أين أبي
.
.
.
مريض
مسافر
معتقل
ميت….
فأجاب بإقرار الاخيرة
نعم لقد توفي بجلطة منذ خمس سنوات
توقفت الكلمات بحلقي ولساني
وتوقفت قدماي عن المسير
وتوقف عقلي عن المحاكمة ونظرت إليه
وفي نفسي صرخات تقول مستحيل مستحيل
فلقد رجعت إليه بعد أثناعشر عاماً
لقد نذرت أن أقبل رجليه
أريد أن أعوض له لوعة تلك السنوات
أريد أن أغمر قلبه بالحب وأمسح عنه لؤم تلك الأيام
أريد أن أخبره وأن أكلمه أنني كنت في السجن رجلاً كما أراد
أريد وأريد وأريد
أنتظرت هذه اللحظات طويلا وأعددت لها الجواب ياأبي
وراحت صوره تتقاذفني بشيبته الجميلة ووقاره المعهود
كان عملاقاً بكل شىئ وبكل ماتحمل هذه الكلمة من معاني في تفكيره وعقله وعمله
وكلما مر علي يوم في السجن أزداد مكانة في قلبي وروحي وعقلي
حسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون
وصلت سيارة صفراء ونزل منها رجل إلى الصحة والطول أقرب أسود الشعر أبيض الوجه
فأشار إلي الرجل
هذا أخوك طارق وقد ركض إلي مسرعاًوعيناه تذرفان بالدموع
كانوا يسمونها في الكتب دموع الفرح
واحتضنني وشعرت حينها بأن الحياة بدأت تدب إلي من جديد بعضاً من أجزائي بدأت تأخذ أمكنتها وكأنه يريد مني أن ألقي على كتفيه شقاوة الأيام ومرارتها راثياً لنفسي مشفقا على حالي
كان أخي طارق يصغرني بعامين ولكني شعرت حنان الصغير أحتضن شقاء الكبير
وصعدنا السيارة وطارق يحدثني وعيناي تسبحان في الشرود وفي قلبي غصة
وصلت بنا السيارة إلى المكان المنشود ونفسي بين الألم والفرحة تروح وتجيئ
يافرحتي بلقاء أمي وإخوتي
ويا فرحة تلك المضناة بقلبها ولوعة وليدها قطع تلك المشاعر صوت أخي تفضل إلى المصعد وضغط على زر الطابق السادس وفتح باب المصعد
وكانت أمي بالباب تلهج بالحمد والشكر الف الف حمدلله عالسلامة ياابني
وعند رؤيتها كنت قد نذرت في أول أيام أعتقالي أن أقبل رجليها
انكببت على رجليها اقبلهما
فسقطت مغشية عليها
والزغاريد والبكاء من الفرح والقهر والألم يعزفان لحناً فريداً
يحكيان قصة عاشها كل بيت في بلدنا الحبيب
مآساة كتبت فصولها بالدم والقهر والألم
وفي النهاية وللقصة بقية
ياصاحبي أعتقلت وانا ابن السابعة عشره عاماً
أي (حدث) بتهمة دروس دينية في المسجد
وعرضت على المحكمة العسكرية عام 1987
وحكمت براءة وأخلي سبيلي في 1992/4/2 ليلة الخميس صبيحة عيد الفطر